نفسي أكمّل في حاجة واحدة للآخر، بس مش عارف إزاي!
خلال أول ٤ سنين بعد التخرج اشتغلت في ٦ شركات، وفي كل مرة كنت أنا اللي باخد قرار الاستقالة. هنا كان لازم آخد بالي إن فيه مشكلة.
أصحابي كانوا بينصحوني أطوّل بالي، لإن التنقل المستمر بين الوظايف بيبوّظ شكل الـ CV وبيقدم انطباع لأي شركة جديدة إن صاحب الـ CV ده مش بيستحمل الضغط، وأول ما المركب تواجه شوية تقلبات بينط منها؛ ده معناه ان فرص توظيفي في اي شركة هتقل.
أنا كنت عارف كويس ليه بستقيل في كل مرة، وواثق جدًا في صحّة قراراتي، بس مع الوقت وتعليقات الناس اللي حواليّا، بدأت فعلاً أشك في نفسي وفي قدرتي على الاستمرار.. بالأخص لما فكرت قد إيه المشكلة دي ممكن تدمر مستقبلي المهني وحتى علاقاتي ومشاريعي المستقبلية.
بس فيه حاجات مابتفهمهاش غير لما تعدّي عليها سنين؛ كأن كل قرار وكل تجربة بتضيف تفصيلة صغيرة لصورة كبيرة مش هتشوفها كاملة غير بعد وقت طويل.
فهمي لمعنى الاستمرارية اتشكّل من الصورة اللي رسمتها تجاربي الشخصية على مدار السنين. النهارده بس، لما الصورة اكتملت، أقدر أقول بكل ثقة إني عمري ما كان عندي مشكلة في الاستمرارية، كل الحكاية إني مكنتش شايف حقيقتها ولا فاهم معناها.
لو إنت حاسس إنك مبتقدرش تكمّل في أي حاجة للآخر، ونفسك يبقى نَفَسك طويل، وتوصل لهدفك، يبقى اسمحلي أخد من وقتك دقايق اوصفلك فيهم ملامح الصورة اللي اظهرت لي حقيقة الاستمرارية.
الناس فاهمين الاستمرارية في النماذج دي:
واحد بيتمرّن في الجيم بانتظام بقاله ١٥ سنة.
واحد بينشر محتوى على السوشيال ميديا يوميًا بقاله ٣ سنين.
واحد بيقرأ كل شهر كتابين بقاله ٥ سنين.
واحد بيشتغل نفس الوظيفة بقاله ٢٢ سنة
لكن، ماذا لو قلتلك ان النماذج اللي جايه كمان فيها روح الاستمرارية؟
واحد مهتم جدا بصحته لكن مش بيروح الجيم بانتظام.
واحد بينشر محتوي علي السوشيال ميديا بقاله سنين بس بشكل متقطع.
واحد بيطور نفسه لكن بيقرأ حسب مزاجه ومش بيخلص ولا كتاب للآخر.
واحد متميز في شغله لكن بيتنقل كتير بين الشركات.
انا متخيل انك دلوقتي احترت وبدأت تفكرني بهزر، بس انا بتكلم جد.
اول مشكلة في فهمنا لمعني الاستمرارية بتكمن في اننا بنحكم عليها بالارقام وتكرار السلوك بانتظام خلال فترة زمنية معينة. هو ده المفهوم السطحي المضلل لحقيقة الاستمرارية، عشان كده اي حد بيحاول يحكم علي استمراريته من هذا المنظور بيبدأ يشك في نفسه.
لو حاولت تبقي شخص عنده قدرة علي الاستمرار في فعل الشئ وفقا للمفهوم ده، يبقي انت فعليا بتحكم علي نفسك بالفشل من قبل ما تبدأ. لأنك مش آله او روبوت. لأن النفس البشرية ملوله بطبعها. لأن اهتماماتك بتتغير مع الوقت، ولان الظروف مش هتفضل تتحرك في نفس الطريق اللي انت اختارته لنفسك.
قبل ما تحكم علي نفسك او تظن انك عندك مشكلة في الاستمرارية لازم الاول نفهم يعني إيه استمرارية أصلاً، لإن فيه ناس كتير فاهمين الموضوع بشكل سطحي جدًا، ودي أول وأكبر مشكلة، فضروري نعيد تعريف الاستمرارية من الأول عشان نبدأ رحلتنا صح وعلى نور.
ماهي الإستمرارية
الاستمرارية هي كل فعل او سلوك يتفق مع قيمك ودوافعك الداخلية.
يعني حتي لو تنوعت سلوكياتك وتغيرت وتبدلت، طالما كنت في حالة سعي منسجمة مع نفس قيمك ودوافعك الداخلية، فأنت شخص مستمر علي نفس الطريق حتي وان بدا عكس ذلك. بمعني آخر، الاستمرارية هي التغيير المستمر لاجل الحفاظ علي قيمك الشخصية وتعزيزها.
الإستمرارية هي جوهر الفعل وليس ظاهره
الاستمرارية مش جدول حصص ولا عدد أيام. هي ببساطة معناها إن كل فعل يكون نابع من جوّاك، ومتوافق مع قيمك ودوافعك الحقيقيّة حتي لو شكل الفعل نفسه اتغيّر من يوم للتاني حسب ظروفك. المهم تبقى بتتحرك باستمرار في نفس الطريق اللي اختارته لنفسك، حتى لو وسيلتك اتغيرت.
مثلا لو قررت تحافظ علي صحتك، استمراريتك مش معناها انك تتمرن في الجيم ٣ ايام في الاسبوع طول السنه، انما معناها انك تعمل الحاجات اللي منسجمة مع الطريق اللي اختارته لنفسك بغض النظر عن تكرارها لفترة طويله. يعني ممكن تتمرن في جيم، بعد فترة تحصلك ظروف فتستبدل الجيم برياضة الجري او السباحة. اوقات تكون مريض ماتقدرش تلعب رياضه فتختار انك تحافظ اكتر علي الاكل الصحي وتنام كويس عشان تستعيد عافيتك، وهكذا..
ناس كتير بعتولي رسائل وتعليقات بيطالبوني انشر فيديوهات علي يوتيوب بانتظام، بس انا عمري ما اخترت ولا قررت اني استمر في نشر فيديوهات بانتظام ولا حتي اي نوع من المحتوي (التعريف السطحي للاستمرارية) انما اخترت امشي في طريق النفع والتأثير (جوهر الاستمرارية) ومن وقت ما اخدت القرار وعقدت النيه وانا بعمل ده من خلال وظيفتي في التدريب، الكوتشينج، المقالات، صناعة المحتوي، وحتي من خلال محادثه عميقة مع احد افراد اسرتي او اصدقائي.
الاستمرارية بالنسبة لي هي رحلة قيم ومبادئ شخصية، مش مجرد سباق مع مواعيد وجداول ثابتة.
وبالتالي كل اللي انا بعمله دلوقتي سهل يتغير، ممكن ابدله بحاجات تانيه، ممكن في يوم تلاقيني بتكلم عن مواضيع مختلفه وبعيده تماما عن توقعاتك، ممكن ادخل مجال جديد عليا، بس اللي صعب يتغير هو الطريق اللي اختارته عن قناعة وايمان عميق بقيمته. اللي صعب يتغير هو حب الخير ومشاركة القيمة والنفع مع الآخرين.
لما كنت بستقيل كتير في بداية حياتي المهنية، قراراتي كانت منسجمة مع دوافع وقيم شخصية عميقه زي التعلم وتطوير الذات والتأثير، لما كنت بدور عليهم في الوظيفة ومش بلاقيهم كنت بستقبل واجرب ادور عليهم في مكان تاني.. الحمدلله لاقيتهم في التدريب والكوتشنج وتقديم المحتوي التعليمي. في الظاهر انا كان عندي مشكلة اني مش بكمل في وظيفه لاكتر من كام شهر لكن الحقيقه اني كنت بغير الوظائف لاني مستمر في تتبع قيمي ودوافعي ومش متقبل اعيش حياتي في الاتجاه المعاكس للبوصلة الداخلية بتاعتي.
الاستمرارية اقوي من الظروف
من الوارد انك تكتشف مجال افضل من غيره في التعبير من خلاله عن قيمك الجوهريه، زي ما حصل مع طبيب جراح اكتشف ان افضل طريق للتعبير عن قيمه الجوهرية هو الكوميديا الساخرة وقرر يترك الطب.
باسم يوسف، سنة ٢٠١١ اثناء ثورة يناير كان بيشتغل طبيب وكان ضمن مجموعة الاطباء اللي بيقدموا مساعدات في ميدان التحرير في القاهرة لكن كان جواه صوت عايز يطلع واختار انه يعبر عن الصوت ده في فيديوهات بتسخر من الاوضاع السياسيه في البلد وقتها اللي كانت مليانه تناقضات ونفاق علني من شخصيات سياسية واعلامية.
الوقت بيمر وباسم يتحول لأيكونة اعلامية ويقدم البرنامج الاكثر مشاهدة في الوطن العربي "برنامج البرنامج" ويقرر يسيب الطب ويتفرغ لدورة الجديد، لكن البرنامج رغم نجاحه الكاسح لم يستمر!
الظروف والمناخ السياسي اتغير بعد تغيير السلطة في مصر، والنتيجة كانت وقف البرنامج تماماً، وباسم اصبح مطارد سياسيا، فقرر يهاجر لامريكيا، لكنه فضل مستمر في طريقة وقدر يلاقي وسائل جديدة يعبر من خلالها عن نفس القيم سواء من خلال حفلات ستاند اب كوميدي، الظهور الاعلامي الرسمي او من خلال السوشيال ميديا. البرنامج لم يستمر لكن باسم يوسف احتضن التغيير عشان يقدر يستمر علي نفس الطريق اللي اختاره لنفسه من سنين طويله.
الوسائل بتتغير لكن الطريق اللي احنا بنتحرك فيه محكوم بالقيم اللي قررنا نعيشها ونعبر عنها بكل الوسائل الممكنه، وهو ده المعني الحقيقي للاستمرارية.
الاستمرارية في الاتجاه اللي بتتحرك فيه، مش في الحاجات اللي بتعملها.
الاستمرارية في التغيير المرن
الانسان الغير مرن مع ظروفه.. صعب يستمر في طريقة للنهاية.
المرونة هنا معناها ان سعيك يكون مرتبط بطريق واحد لكنه غير مشروط بوسيلة واحدة.
اهدافك و خطتك لازم تتأقلم مع الظروف بس تفضل ماشية نفس الاتجاه وبتغذي نفس القيم والدوافع اللي بتحركك. ممكن تغير الوظيفه، مجال العمل، البيئة، كل حاجه ممكن تتغير طالما التغيير ده بيدفعك اسرع علي الطريق اللي اختارته لنفسك.
الشاب المصري عُمر سمرة كان لابس بدلة وكرافتة وقاعد علي مكتب في احد البنوك في القاهرة، لكن جواه كان في قيمة جوهرية صوتها اعلي من ظروفه، القيمة هي إنه يلهِم الناس يتجاوزوا حدودهم ويعيشوا مغامرة حياتهم.
في 2007 قرر يسمع للصوت ده، وبدل ما يحفظ الأرقام في البنوك حفظ ارتفاعات الجبال واسمائها، وتسلق إيفرست وبقى أول مصري يرفع علم بلده على القمة. ترك وظيفته في البنك، وفتح شركة Wild Guanabana اللي بتنظّم رحلات مغامرة بروح اجتماعية.
ومن ساعتها ما وقفش، بالعكس، فضِل مكمل ومصمم يعبّر عن نفس القيمة اللي اختارها، مرة بالتجديف عبر المحيط، مرة برحلات للقطبين، ومرات ببرامج توعية للشباب… كل مرة بيغير الوسيلة، لكن الرسالة واحدة وواضحة وصعب تتغير.
الاستمرارية مش معناها إنك تفضل في نفس الكرسي تعمل نفس المهمة كل يوم، لكن معناها إنك تفضل متمسّك بنفس القيمة والرسالة، حتى لو اضطريت تبدّل الكرسي بمركب تعبر به عرض المحيط.
هي دي المرونة الحقيقية، واللي من غيرها مش ممكن تستمر للآخر.
الاستمرارية اختيار يومي
اللي تقدر تعمله النهارده في ظروفك الحالية، وارد جدًا ماتقدرش تعمله بكرة لو الظروف اتغيّرت.
الشخص اللي فعلًا مستمر على الطريق هو اللي بيعرف يختار الأفضل ليه كل يوم، مهما كانت ظروفه. اللي اختار طريق التعلم وتطوير نفسه هيفضل يتعلّم، مهما حصل حواليه. لو متعوّد يتعلم أونلاين والإنترنت فصل، هتلاقيه فتح كتاب. لو مافيش كتاب، هيدوّر على فرصة يتعلم من الناس اللي حواليه، وهكذا…
قيمك ودوافعك الداخلية هي البوصلة اللي بتحدد اختياراتك اليومية. كل يوم، ومن وسط أي ظروف، هتلاقي نفسك تلقائيًا بتختار الحاجة اللي أقرب للقيم دي، وبتبعد عن كل حاجة ممكن تبعدك عن جوهر نفسك وقيمتك كإنسان.
الخلاصة
كل مرة بتشك فيها في نفسك وقدرتك على الاستمرارية، افتكر إن الاستمرارية عمرها ما كانت مجرّد التزام صارم بجدول أو أرقام ثابتة. الحقيقة اللي فهمتها بعد سنين وتجارب كتير هي إن الاستمرارية قرار داخلي، التزام مستمر بقيمة عميقة اخترتها لنفسك، مهما اختلفت الظروف أو تبدّلت الوسائل.
بُصّ لحياتك زي لوحة بترسمها بإيدك؛ كل قرار وتجربة هي ضربة فرشة بتضيف تفصيلة مهمة. ممكن أوقات تِحسّ إن الرسم مش واضح، أو إنك خرجت عن المسار. لكن الحقيقة إنك طول ما إنت محافظ على قيمك ودوافعك الأساسية، اللوحة هتكتمل وهتبهرك في النهاية.
لو النهارده حسيت إنك ضعيف أو تايه، ارجع واسأل نفسك سؤال واحد بسيط: "هل اللي بعمله دلوقتي متوافق مع القيم اللي مؤمن بيها؟" طالما إجابتك هي "نعم"، فأنت كده ماشي صح، حتى لو شكلك من برّه غير مستمر في نفس الشئ. الثبات الحقيقي عمره ما كان ثبات في الوظيفة ولا في الروتين اليومي، لكنه ثبات في جوهر روحك، في الرسالة اللي اختارتك واخترتها، وفي القيم اللي بتتحرك عشانها كل يوم.
ده كل اللي حبيت اشاركه معاك لحد ما نلتقي في مقال جديد الاسبوع القادم إن شاء الله. لحجز جلسة كوتشنج اضغط هنا. لقناتي علي يوتيوب اضغط هنا
مقال مميز وبيدمر فكرة مغلوطة اترسخت في عقولنا عن الاستمرارية، والفكرة دي ساعات بتخلي الشخص يفقد شغفه او استمراريته لو قطع يوم او اكتر بسبب ظروف ويبدأ يبقى قاسي على نفسه.
لكن نقطة اخرى ان أحيانا فيه ناس مش بتبقى عارفة ايه هي القيم بتاعتها، او ممكن يكون عندها مفهوم مغلوط عن دا برضو ويفضلوا في حالة تشتت.
لو امكن حضرتك تتكلم عن موضوع القيم دا اكنر، لربما يساعد حد يفهم نفسه اكتر
Keep going,don’t give up.🤍